يمكن تعريف الاستشارة الشرعية أو القانونية بأنها: (تجلية وإيضاح لرأي الشرع والقانون أو الحلول المتاحة فيهما لطرف آخر حيال موضوع محدد أو واقعة معينة لأسباب متنوعة).
ولما كانت الاستشارة موضوعا بالغ الأهمية قد يترتب عليها مصائر أرواح وأموال بل واقتصادات كان لزاما أن لا يتولى تقديمها الا من هو راسخ في علمها ليكون أهلا للثقة به؛ بيد أننا في عصر قد اختلطت فيه الأمور وكثر فيه المتعالمون حتى صارت الاستشارة سلعة مسترخصة في عيون طالبيها وموضوعا دسما بل فكاهيا يلوكه الناس في مجالسهم الخاصة والعامة، ولذا أصبحت الحاجة ماسة إلى نظام حازم يحدد أطرا ومعايير قاسية لمن يتولى تقديم الاستشارة.. ورغم جهود الدولة مشكورة في وضع تلك المعايير والشروط إلا أننا نجد من يستطيع تجاوز تلك المعايير (وبقوة النظام) والقفز إلى ميدانها دون أن يكون مؤهلا تأهيلا كافيا فيترك انطباعا بائسا عن تلك المهنة الشريفة الرفيعة فيضِل ويًضل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
ونحن في هذه المقالة لن نتطرق إلى شكايات الناس وقصصهم المأساوية مع بعض مقدمي الاستشارات (المصرح لهم بتقديمها!) أو تحليلها والتحقق من صحتها إذ تلك القصص ذات شجون، وكثير منها حقيقي ولا تكاد تنتهي للأسف الشديد.
وقد سبق أن تحدثنا عن مواضيع بشأن التعرف على علامات الشخص المناسب لتقديم المشورة القانونية، كما تحدثنا أيضا عن المتشبهين بهم والمهنة براء منهم، وقد آثرنا في هذه المدونة توجيه بعض النصائح المباشرة المستشار الشرعي والقانوني قبل وأثناء وبعد تقديم المشورة القانونية إلى طالبها. ولكي يكون المستشير على اطلاع بشروط وآداب تقديمها.
ولذا يجب على من يقدم الاستشارة أن يكون مطلعا اطلاعا مستفيضا على نصوص القانون التي تحكم المسائل التي تُعرض عليه مدعما رأيه بنصوص شرعية أو قانونية مباشرة أو وقائع تم الحكم فيها بأحكام نهائية فيما يشبهها من وقائع وظروف أو مبادئ عامة مقرة من الدرجة القضائية المخولة بتقريرها كالمحكمة العليا على سبيل المثال.
ولا شك أن الدور الوقائي الذي يقوم به المستشار الشرعي والقانوني عند ممارسته لمهامه هو دور فاعل ومنتج وهو صمام أمان للمنشأة مهما كان حجمها أو فئتها أو حتى تلك التي تمنح للأفراد؛ فالمستشار يكاد يكون الشخص الوحيد المخول في منع أو تخفيف وقوع مستشيره تحت طائلة القانون أو يحميه من خسارة مالية أو اجتماعية أو حتى نفسية غير محسوبة.
ولكننا بتتبع معظم الاستشارات التي يلجأ إليها الناس بكافة تنوعهم ومراكزهم لا يلجؤون إلى طلب الاستشارة الشرعية والقانونية إلا بعد حدوث النزاع أو ارتكاب المخالفة أو الواقعة وأحيانا كثيرة حتى تبدو معقدة وشائكة وصعبة الحلول.
إننا ندرك أن ذلك القسم من المستشيرين لهم أسبابهم ودوافعهم المقبولة أحيانا ولكنها أحيانا كثيرة نابعة عن الجهل بدور المستشار وأهمية الاستعانة به في تلك الفترة.
وعودا إلى موضوع هذه المقالة؛ يرد هنا سؤال ملح حول أهم العناصر التي يجب على المستشار الاهتمام بها ومراعاتها عندما تطلب منه الاستشارة؟ والجواب هو:
أولا: لما كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ كان لزاما على المستشار الشرعي والقانوني أن يتولى دراسة الموضوع المعروض عليه دراسة متأنية وفهم لأبعاده وعناصره وتفاصيله وعدم الاعتماد الكامل على الرواية التي يذكرها المستشير لأسباب متعددة من أهمها:
أن المستشير قد لا يحسن ذكر التفاصيل أو بيان بعض العناصر التي لا تبدو له أنها ذات أهمية أو ان يكون تحت حالة من الضغط النفسي او الاجتماعي او المالي.. بينما ربما يكون الإخبار بها وكشفها نقطة جوهرية مؤثرة في مسار الاستشارة أو عامل تحول كبير في حل النزاع؛ وبالتالي يجب مطالبته بالحديث الصريح المستفيض المفصل عن كل صغيرة وكبيرة حول الواقعة أو موضوع الاستشارة، وتأمينه دون أن يشعر بالخوف أو الاستحياء.
كثيرا ما يلجأ المستشير عند بداية حديثه إلى الدفاع عن موقفه القانوني ظنا منه أن تلك الخطوة جزءا من التشاور!، ورغم أهمية تلك الجزئية إلا انه كثيرا ما يكون سببا للتشويش على المستشار وتشتيته؛ فينبغي على المستشار التنبه لذلك وإرشاد المستشير ومساعدته في ترتيب سرد الاستشارة.. ولعلنا نأخذ بصورة مختصرة على سبيل المثال موضوع استشارة عمالية: في حال كان النزاع عماليا واقعا في مقر العمل: بدءا بالتعريف بنوعية عمله وطبيعته ومركزه الإداري وصلاحياته ومدى وجود لائحة داخلية تنظيمية في مقر العمل ومن ثم الحديث عن الواقعة والتعرف على الأسباب التي دفعت إلى وقوعها والأشخاص المشاركين بها وموقف الإدارة من الحادثة وما تم فيها من إجراءات داخل أو خارج المنشأة ومن ثم إبداء الرأي القانوني المسبب المستند على الأنظمة واللوائح الخارجية والداخلية تجاه الاستشارة.
على المستشار أن يدرك أن الرواية وإن كانت تشكل جزءا من الحل إلا أنها ليست معتمدا كافيا لدى الجهات المخولة بالفصل في النزاعات بين الأطراف؛ فقصاصة ورقة أو شهادة مهملة أو قرينة ضعيفة مهمشة قد تكون سببا لقلب الموازين لصالح أي طرف.
ينبغي على المستشار أن يتحقق من المستشير بدقة عن طلباته واستفسارات تجاه ما يعرضه عليه من وقائع.
ثانياً: الالتزام المهني بأخلاقيات وآداب الاستشارة. ولعلنا نتطرق الى بعض هذه الأخلاقيات وليس جميعها تجنبا للإطالة:
على المستشار حسن الإنصات لطالب الاستشارة ومراعاته في سرد تفاصيلها وإشعاره بأنك استمتعت جيدا لمشكلته وتقوم بتوجيه الأسئلة التي تصب في مصلحة الاستشارة أو يتوقع أنها تخدم الواقعة المعروضة عليه في الوقت المناسب من سرده.
يجب أن يهتم المستشار بتقييد ما يرده من حديث شفهي خطيا بأي وسيلة مناسبة ليستجمع ذلك عند التحليل والدراسة واستخلاص الرأي.. وبخاصة تلك المسائل التي يتعدد فيها الأطراف أو تتضمن أرقاما وتواريخ وأدوارا متعددة.
عادة ما يواجه المستشارون عند تقديم الاستشارة أنواعا من العملاء الذين يشعرون برغبة في التعاطف وتبادل مشاعر الولاء ولذا من المستحسن مراعاة هذا الجانب الإنساني وعدم إغفاله واستحضاره دون الانجراف عن موضوع الاستشارة.. بل إننا نرى أن التعاطف المتزن نوع من المهارة المهنية التي نؤكد على المستشار تعلمها والتدرب عليها كل ما أمكن ذلك.
على المستشار أن لا يتحرج عن قول (لا أعلم)! بالطريقة اللائقة فيما ليس من تخصصه. وإن كان في حدود تخصصه فعليه أن يلجأ إلى زميل من زملاء المهنة مختص (لتنويره) وإفادته فيما عرض عليه.
من أخلاقيات المهنة التمييز بين المستشيرين ومراعاة أحوالهم المادية والاجتماعية على وجه الخصوص بأن يطالب بالقدر المناسب الذي يراعي فيه جانبين هامين هما الجانب المهني والجانب الإنساني، فمهنيا بأن لا يبالغ في التكلفة المالية بأن يحدد التكلفة المناسبة للوقت والجهد المبذول للاستشارة، وأن يراعي الحالة المادية لطالب الاستشارة بأن يقدمها بتكلفة مخفضة أو حتى مجانية زكاة لعلمه وخبرته وشكرا لفضل الله عليه والتماسا للبركة في ماله وعمله.
على المستشار اتباع المنهجية المهنية فيما عرض عليه من استشارات بالالتزام بالمراحل المتعلقة بالاستشارة منذ عرضها عليه وحتى انتهاء الحاجة منها (حسب حالة الاستشارة ومراحلها الموضوعية والشكلية والزمنية) كالدراسة والتحليل والتصنيف ومعرفة الأنظمة والمواد الحاكمة الداعمة لإبداء الرأي القانوني وتحديد الاختصاص النوعي والموضوعي كثبات النص النظامي أو نسخه أو تعديله.. والاختصاص المكاني والزماني كسريان النص ونحو ذلك.. إلخ قبل تقديم الرأي القانوني.
يلزم المستشار أن يحيط المستشير علما برأيه القانوني في صياغة سهلة وقالب مفهوم وبصورة يراعى فيها المستوى الأكاديمي والعلمي والفكري للمستشير ليتأكد من استيعابه للرأي وفهمه من كافة الجوانب، كما ينبغي عليه تزويد المستشير بالمستندات الداعمة لرأيه وما يجب عليه فعله، ومن الضروري أن يقدمه مكتوباً توثيقاً لهذا الرأي ولتيسير الرجوع إليه كوثيقة مرجعية، وليستطيع المستشير الاعتماد عليها في اتخاذ القرار أو تقدير الموقف.
كما يجب على المستشار أن يجيب على كافة أسئلة المستشير التي يطرحها مهما كان مستواها، ويتابعه بتقديم الدعم له حتى بعد أداء الاستشارة وانتهاء الوقت المخصص لها.
وأخيراً.. نتمنى أن نكون قد سلطنا بعض الضوء على الأخلاقيات المتعلقة بالمستشار أمام دوره المهني الكبير عند تقديم رأيه القانوني للغير..
التعليقات
أضف تعليقا